فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به (16)}
الضمير في {به} عائد على كتاب الله تعالى ولم يجر له ذكر، ولكن القرأئن تبينه، فهذا كقوله تعالى: {توارت بالحجاب} [ص: 32]، وكقوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي} يعني النفس، واختلف المتأولون في السبب الموجب أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فقال الشعبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على أداء الرسالة والاجتهاد في ذات الله تعالى ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليّه قبل كمال إيراد الوحي، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يفضى إليه وحيه. وجاءت هذه الآية في هذا المعنى. وقال الضحاك. كان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق، فنزلت الآية في ذلك، وقال كثير من المفسرين وهو في صحيح البخاري عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه، فنزلت الآية بسبب ذلك وأعمله الله تعالى أنه يجمعه له في صدره، {وقرآنه} يحتمل أن يريد به وقراءته أي تقرأه أنت يا محمد، والقرآن مصدر كالقراءة ومنه قول الشاعر حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنه وأرضاه: البسيط:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا

ويحتمل أن يريد {إن علينا جمعه} وتأليفه في صدر صدرك فهو مصدر من قولك قرأت أي جمعت، ومنه قولهم في المرأة التي لم تلد ما قرأت سلا قط، ومنه قول الشاعر عمرو بن كلثوم: الوافر:
ذراعي عيطل أدماء بكر ** هجان اللون لم تقرأ جنينا

وقوله تعالى: {فإذا قرآناه فاتبع قرآنه} أي قراءة الملك الرسول عنا. وقوله تعالى: {فاتبع} يحتمل أن يريد بذهنك وفكرك، أي فاستمع قراءته وقاله ابن عباس، ويحتمل أن يريد {فاتبع} في الأوامر والنواهي، قاله ابن عباس أيضا وقتادة والضحاك وقرأ أبو العالية: {قرته}، {فإذا قرته فاتبع قرته} بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثالثة، وقوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه}، قال قتادة وجماعة معه: معناه أن نبينه لك ونحفظكه، وقال كثير من المتأولين معناه أن تبينه أنت، وقال قتادة أيضا وغيره معناه أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره، وقوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة} رجوع إلى مخاطبة قريش، فرد عليهم وعلى أقوالهم في رد الشريعة بقوله: {كلا} ليس ذلك كما تقولون. وإنما أنتم قوم قد غلبتكم الدنيا بشهواتها، فأنتم تحبونها حبا تتركون معه الآخرة والنظر في امرها.
وقرأ الجمهور {تحبون} بالتاء على المخاطبة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد والجحدري وقتادة {يحبون} بالياء على ذكر الغائب وكذلك {يذرون} ولما ذكر الآخرة أخبر بشيء من حال أهلها بقوله: {وجوه} رفع بالابتداء وابتداء بالنكرة لأنها تخصصت بقوله: {يومئذ} و{ناضرة} خبر {وجوه} وقوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} جملة هي في موضع خبر بعد خبر، وقال بعض النحويين: {ناضرة} نعت ل {وجوه}، و{إلى ربها ناظرة} خبر عن {وجوه}، فعلى هذا كثر تخصص الوجوه فحسن الابتداء بها. و{ناضرة} معناه ناعمة، والنضرة النعمة وجمال البشرة، قال الحسن: وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وقوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} حمل هذه الآية أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى، وهي رؤية دون محاذاة ولا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم، موجود لا يشبه الموجودات كذلك هو لا يشبه المرئيات في شيء، فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حدثتكم عن الدجال أنه إعور وأن ربكم ليس بأعور وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته»، وقال الحسن: تنظرون إلى الله تعالى بلا إحاطة، وأما المعتزلة الذين ينفون رؤية الله تعالى، فذهبوا في هذه الآية إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه، فقدروا مضافا محذوفا، وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول، فلا ناظر إليك في كذا، أي إلى صنعك في كذا، والرواية إنما تثبتها بأدلة قاطعة غير هذه الآية، فإذا ثبتت حسن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقوي، وذهب بعض المعتزلة في هذه الآية إلى أن قوله: {إلى} ليست بحرف الجر وإنما هي إلى واحد الآلاء فكأنه قال نعمة ربها منتظرة، أو {ناظرة} من النظر بالعين، ويقال نظرتك بمعنى انتظرتك، ومنه قول الحطيئة: البسيط:
وقد نظرتكم أبناء عائشة ** للخمس طال بها حبسي وتبساسي

والتبساس أن يقال للناقة بس بس لتدر على الحالب، وفسر أبو عبيدة في غريبه هذا البيت على رواية أخرى وهي: طال بها حوزي وتنساسي بالنون وهو السير الشديد فتأمله، و(الباسرة) العابسة المغمومة النفوس. والبسور أشد العبوس، وإنما ذكر تعالى الوجوه لأنه فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غم، والمراد أصحاب الوجوه، وقوله تعالى: {تظن أن يفعل} إن جعلناه بمعنى توقن فهو لم يقع بعد على ما بيناه وأن جعلنا الظن هنا على غلبته، فذلك محتمل، و(الفاقرة): المصيبة التي تكسر فقار الإنسان، قال ابن المسيب: هي قاصمة الظهر، وقال أبو عبيدة: هي من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار، وقوله تعالى: {كلا إذا بلغت} زجر آخر لقريش وتذكير لهم بموطن من مواطن الهول وأمر الله تعالى الذي لا محيد لبشر عنه وهي حالة الموت والمنازعة التي كتبها الله على كل حيوان، و{بلغت} يريد النفس، و{التراقي} ترقوة وهي عظام أعلى الصدر، ولكل أحد ترقوتان، لكن من حيث هذا الأمر في كثير من جمع، إذ النفس المرادة اسم جنس، و{التراقي} هي موازية للحلاقيم، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الموت، يسره الله علينا بمة، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {من راق} فقال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو قلابة: معناه من يرقى ويطب ويشفى ونحو هذا مما يتمناه أهل المريض، وقال ابن عباس أيضا وسليمان التيمي ومقاتل وابن سليمان: هذا القول للملائكة: والمعنى من يرقى بروحه، أي يصعد إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقرأ حفص عن عاصم بالوقف على {من} ويبتدئ {راق} وأدغم الجمهور، قال أبو علي: لا أعرف وجه قراءة عاصم، وكذلك قرأ {بل ران} وقوله تعالى: {وظن أنه الفراق} يريد وتيقن المريض أنه فراق الأحبة والأهل والمال والحياة، وهذا يقين فيما لم يقع بعد ولذلك استعملت فيه لفظة الظن، وقرأ ابن عباس {أيقن أنه الفراق}، وقال في تفسيره ذهب الظن واختلف في معنى قوله: {والتفت الساق بالساق}، فقال ابن عباس والحسن والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد هذه استعارة لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنه بين الحالين قد أختلطا له، وهذا كما تقول شمرت الحرب عن ساق، وعلى بعض التأويلات في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42] وقال ابن المسيب والحسن: هي حقيقة، والمراد ساق الميت عند تكفينه أي لفهما الكفن، وقال الشعبي وأبو مالك وقتادة: هو التفافهما بشدة المرض لأنه يقبض ويبسط ويركب هذا على هذا، وقال الضحاك: المراد أسوق حاضريه من الإنس والملائكة لأن هؤلاء يجهزون روحه إلى السماء وهؤلاء بدنه إلى قبره، وقوله تعالى: {إلى ربك} معناه إلى حكم ربك وعدله، فإما إلى جنة وإما إلى نار، و{المساق} مصدر من السوق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصِيرة في كلا:
وهى، عند سيبويه والخليل والمبرِّد والزجّاج وأكثر نحاة البصرة، حرف معناه الرّدع والزجر، لا معنى له سواه؛ حتى إِنهم يجيزون الوقف عليها أبدا والابتداء بما بعدها، حتى قال بعضهم: إِذا سمعت كلاّ في سورة فاحكم بأنها مكيّة، لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكّة؛ لأن أكثر العتوّ كان بها. وفيه نظر؛ لأن لزوم المكِّيّة إِنما يكون عن اختصاص العتوّ بها لا عن غلبته.
ثم إِنه لا يظهر معنى الزجر في كلاّ المسبوقة بنحو {فِي أىِّ صُورةٍ مّا شاء ركّبك}، {يوْم يقُومُ النّاسُ لِربِّ الْعالمِين} {ثُمّ إِنّ عليْنا بيانهُ}، وقول من قال: فيه ردع عن ترك الإِيمان بالتصوير في أىِّ صورة شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن، فيه تعسف ظاهر.
ثم إِن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق، ثم نزل: {كلاّ إِنّ الإنسان ليطْغى} فجاءت في افتتاح الكلام.
والوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا كلها في النصف الأخير.
ورأى الكسائىّ وجماعة أن معنى الردع ليس مستمرّا فيها، فزادوا معنى ثانيا يصحّ عليه أن يوقف دونها، ويبتدأ بها.
ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال: فقيل: بمعنى حقّا، وقيل: بمعنى ألاّ الاستفتاحية، وقيل: حرف جواب بمنزلة إِى ونعمْ، وحملُوا عليه: {كلاّ والْقمرِ}، فقالوا: معناه: إِى والقمر.
وهذا المعنى لا يتأتّى في آيتى المؤمنين والشعراء.
وقول من قال بمعنى حقا لا يتأتّى في نحو: {كلاّ إِنّ كِتاب الْفُجّارِ}، {كلاّ إِنّهُمْ عن رّبهمْ يوْمئِذٍ لّمحْجُوبُون}، لأنّ (إِنّ) تكسر بعد ألا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقّا ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم.
وإِذا صلح الموضع للردع ولغيره جاز الوقف عليها والابتداء بها على اختلاف التقديرين.
والأرجح حملها على الردع؛ لأنه الغالب عليها، وذلك نحو: {أطّلع الْغيْب أمِ اتّخذ عِند الرّحْمانِ عهْدا كلاّ سنكْتُبُ ما يقول}، {واتّخذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهة لِّيكُونُواْ لهُمْ عِزّا كلاّ سيكْفُرُون بِعِبادتِهِمْ}.
وقد يتعيّن للردع أو الاستفتاح نحو: {ربِّ ارْجِعُونِ لعلِّي أعْملُ صالِحا فِيما تركْتُ كلاّ إِنّها كلِمةٌ} لأنها لو كانت بمعنى حقّا لما كُسرت همزة إِنّ، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع، لأنها بعد الطلب، كما يقال: أكرم فلانا فتقول: نعم.
ونحو: {قال أصْحابُ مُوسى إِنّا لمُدْركُون قال كلاّ إِنّ معِي ربِّي سيهْدِينِ}، وذلك لكسرِ إِنّ، ولأنّ نعمْ بعد الخبر للتصديق.
وقد يمتنع كونها للزجر والردع، نحو: {وما هِي إِلاّ ذِكْرى لِلْبشرِ كلاّ والْقمرِ} إِذ ليس قبلها ما يصحّ ردّه.
وقرئ: {كلاّ سيكْفُرُون بِعِبادتِهِمْ} بالتنوين، إِما على أنّه مصدر كلّ إِذا أعيا، أى كلُّوا في دعواهم وانقطعوا، أو من الكلّ وهو الثِقْل أى حملُوا كلاّ.
وجوّز الزمخشرىّ كونه حرف الردع نُوِّن كما في (سلاسِلا) ورُدّ عليه بأنّ (سلاسلا) اسم أصله التنوين فرُدّ إِلى أصله.
ويصحّح تأْويل الزمخشرىّ قراءة من قرأ: {واللّيْلِ إِذا يسْرِ} بالتنوين إِذا الفعل ليس أصله التنوين.
وقال ثعلب: كلاّ مركب من كاف التشبيه ولا النافية، وإِنما شدّدت لامها لتقوية المعنى ولدفع توهُّم بقاء معنى الكلمتين.
وعند غيره بسيطة؛ كما ذكرنا.
والله أعلم. اهـ.